صيادلة يحذرون من عملية تهريب في الحقائب: وسطاء و أصحـــاب مــــال يقتحمون سوق الـــدواء

عرف سوق الدواء بالجزائر في السنوات الأخيرة تطورا كبيرا، تزامن مع التسهيلات التي استفاد منها المصنعون المحليون، و اهتمام الدولة بإنتاج الأدوية الجنيسة، و هو نمو وضع أصحاب الصيدليات أمام حتمية مواكبة تطورات سوق أخذت أبعادا تجارية، في ظل المنافسة الكبيرة التي غذاها تسابق المخابر العالمية للظفر بأكبر حصة من السوق، و تحقيق مكاسب مادية ضخمة.
يؤكد صاحب صيدلية بمدينة الخروب، أن إعداد طلبية الأدوية التي تحتاجها صيدليته كل يوم، يبدأ بالتدوين التلقائي لاسم أي دواء يطلبه الزبون و لا يجده عنده، حيث تعتبر هذه العملية أساسية من أجل تحديد مستلزمات المحل طبقا للقائمة التي يتم وضعها، كما يتلقى صبيحة كل يوم اتصالات هاتفية من قبل العديد من المكلفات بالبيع لدى متعاملي الدواء بالجملة، من أجل عرض الأدوية المتوفرة لديهم و تقديم العروض المجانية، أو إرسال نسخ عن طريق الفاكس، ليقوم الصيدلي بالاختيار حسب حاجته و متطلبات السوق.
و استنادا لذات المتحدث فإن المتعامل و فور توضيبه للطلبية، يقوم بإرسالها في شاحنات تصل إلى غاية الصيدلية دون أن يكلفه ذلك أي جهد، أما عن طريقة تسديد ثمن المعاملات فإن الأمر يختلف حسب الظروف، و ذلك إما بالدفع نقدا، أو عن طريق شيكات، و أحيانا بإرجاء التسديد إلى غاية الموعد المتفق عليه، كون عروض البيع تتيح أيضا إمكانية تأجيل الدفع لمدة تختلف بين متعامل و آخر و حسب وضعية السوق.
عروض دواء بالمجان، هدايا و رحلات إلى الخارج
تعتبر «الوحدات المجانية» أهم النقاط التي ترتكز عليها عملية البيع و الشراء بين الصيدليات و مخابر الدواء، حيث يلجأ بعض المصنعين إلى تحضير عروض ترقوية تتضمن امتيازات إضافية، من أجل ترويج المنتجات التي يقومون بتصنيعها محليا، خصوصا و أن المنافسة بين المصنعين فرضت الاستعانة بخبراء في إدارة الأعمال، و العمل على إغراء أصحاب الصيدليات بمثل هذه العروض، التي تعود عليهم بفوائد مالية كبيرة، سيما أن الوحدات المجانية التي تقدم لهم، يتم بيعها بسعرها القانوني للزبائن.
و أوضح “محمد” عامل بصيدلية في مدينة قسنطينة، أن العمل بالوحدة المجانية ساعده كثيرا، فعلى سبيل المثال يتحصل على جهاز لقياس السكري مجانا عن كل عملية شراء للشرائح تفوق قيمتها 20 مليون سنتيم، ليقوم بدوره ببيع هذه الأجهزة للزبائن مقابل مبالغ تتراوح بين 3 آلاف إلى 3800 دينار، مؤكدا أن كثرة العروض تدفع بمسؤولي المخابر للتسابق نحو منح أحسن عرض، كما تسمح هذه العملية للصيدلي، بتحقيق هامش ربح مريح تمكنه من الاستمرار في عمله، و تعوض عن نقص هامش الربح العادي للأدوية.
كما أكد ذات المتحدث أن أول ما يسأل عنه قبل اقتناء أية أدوية يوميا هو «الوحدة المجانية» التي تزيد و تنقص كل يوم، حسب الأدوية المتوفرة، مضيفا أن مجمعات بيع الأدوية بالجملة تحضر يوميا عروض مختلفة تتماشى مع كمية الدواء المتوفر و نوعيته، وعلى الصيدلي أن يتماشى مع هذا التغيير اليومي، خاصة في ما تعلق بالأدوية النادرة، حيث يتحتم عليه، في الكثير من الأحيان، اقتناء أدوية و مستحضرات لا يحتاجها، من أجل الحصول على ما يحتاجه المريض، إذ يتم تحديد حجم الوحدة المجانية بنسب مئوية يمكن أن تصل إلى غاية 200 في المائة من الحجم الإجمالي من الأدوية المقتناة، أي بمنح المشتري علبتي دواء مجانية مقابل اقتنائه لعلبة واحدة.
صاحب صيدلية آخر بمدينة الخروب أوضح أن هناك أنواعا كثيرة من الأدوية التي تباع عن طريق الوحدة المجانية، و يتعلق الأمر أساسا بالأدوية الجنيسة، والتي لا يمكن لها أن تنافس، حسبه، تلك الأصلية، و ذلك للفارق الكبير في الفعالية بين المنتجين، غير أنه كصيدلي يفضل ممارسة نشاطه اعتمادا على الأدوية الجنيسة بشكل كبير من أجل البقاء، رغم تأكيده على أن العملية معقدة و ليس كما يعتقد البعض.
و يضيف محدثنا أنه وجد نفسه مجبرا على اقتناء كمية كبيرة من الأدوية السنة الفارطة، من أحد المنتجين المحليين رغم أنه لم يتبق على انتهاء صلاحيتها سوى أقل من سنة، و قد اضطر إلى التخلص منها بعد ذلك، و كل هذا من أجل الحصول على بعض الأدوية النادرة في السوق و التي كان مضطرا لتوفيرها لبعض المرضى من معارفه، و هو نفس ما أكده لنا الكثير من الصيادلة لدى تحدثنا إليهم، حيث أوضحوا أنه مقابل كمية الأدوية التي يحصلون عليها مجانا، فإنهم مجبرون و رغما عن إرادتهم، على اقتناء أدوية هم على يقين بأنها لا تُباع.
و من بين العروض التي يتلقاها الصيادلة من قبل مؤسسات بيع المواد الصيدلانية بالجملة، هي الهدايا، مقابل اقتناء حزمة من الأدوية التي يكون معظمها من الأصناف غير الرائجة في الأسواق، و تتمثل الهدايا عادة في الأجهزة كهرومنزلية و قسيمات شراء تخص متعاملين للتجهيزات الالكترونية أو محلات فخمة لبيع مواد التجميل، و قد تصل في بعض الأحيان إلى رحلات خارج الوطن، نحو كل من اسبانيا، تركيا و غيرها، و هي في المجمل البلدان التي تقع بها مخابر الدواء المُتعاقد معها لجلب المواد الأولية.  
وسطاء يدخلون أدوية ممنوعة عن طريق «الكابا»
و من بين المشاكل الكبيرة التي أخلطت حسابات متعاملي الدواء في الفترة الأخيرة، هي دخول بعض الوسطاء بين المخابر و الصيادلة على الخط، ما غيّر كثيرا من التعاملات و أضفى عليها الصبغة التجارية، حيث أكد عدد من الصيادلة الذين تحدثنا إليهم، أن حاجتهم لبعض الأدوية النادرة دفعتهم للاستعانة ببعض النافذين و أصحاب المال، من أجل الحصول على بعض الأدوية النادرة في السوق، خاصة ما تعلق بالمنتجات الأصلية التي يتم «تهريبها» عن طريق ما يعرف بـ «الكابة».
و أسرّ لنا محدثونا أن بعض الأدوية التي منعت من قبل وزارة الصحة، يتم تداولها على نحو ضيق، حيث يقومون باقتنائها من قبل هؤلاء الوسطاء مقابل مبالغ مالية كبيرة، فعلى سبيل المثال يعتبر دواء “ايدروكورتيزون 10 ملغ» من الأدوية ا التي تستقدم من فرنسا تحديدا، و يتم بيعها لعدد قليل من الصيدليات عن طريق وصولات تسليم فقط و دون قسيمة، كما لا يتم إدراجها ضمن الحسابات و لا تشملها الضرائب أبدا، بحيث قد يفوق ثمن العلبة الواحدة من هذا الدواء إن وجد، مبلغ 1500 دينار، في حين لا يتجاوز سعر اقتنائها من بلد المنشأ نصف هذا السعر، غير أن ندرتها وعدم وجود دواء جنيس لها، يجبر المرضى على اقتنائها بأي ثمن.
كما أن دخول هؤلاء الوسطاء لسوق الدواء أخلط حسابات الكثير من المتعاملين، و أضحى العمل أكثر تعقيدا و مليئا بالمجازفات، و هو ما أكده لنا مسير مؤسسة لبيع المواد الصيدلانية بالجملة بولاية قسنطينة رفض الكشف عن هويته، حيث أوضح أن هناك الكثير من الوسطاء الذين خلقوا سوقا سوداء للدواء، و قد ساعدتهم في ذلك بعض المخابر، من خلال سعيها للهيمنة على السوق و امتلاك أكبر حصة منه، خاصة أن البعض يقبل، حسبه، التعامل مع أشخاص، رغم أنهم لا يحوزون على ملفات تقنية، تجيز لهم اقتناء الأدوية، حيث أكد أن الكثير من هؤلاء المتعاملين يسعون لاحتكار نوع معين من الدواء، من خلال شراء الكمية التي يتم إنتاجها طوال فترة معينة، حيث تتجاوز القيمة المالية للتعاملات السنوية مئات الملايير.
و أضاف محدثنا أن هدف الوسطاء هو الحصول على أكبر تخفيض من المخابر مقابل تسويق ما تنتجه من أدوية، ليركز بعدها على بيع ما تحصل عليه بأقل من قيمة الشراء، كما أن التخفيضات التي يحصل عليها عقب بيع كامل كمية الدواء المتفق عليها، تغطي حجم الخسائر التي تكبدها في الفترة السابقة و التي تؤمن له هامش ربح كبير، بينما لا يتمكن الكثير من أصحاب مؤسسات بيع المواد الصيدلانية الصغيرة و المتوسطة، من الاستفادة من عروض مماثلة بحكم حجم المعاملات الصغير، زيادة على أن أغلبهم يتجنب فوترة كل ما يقتنيه للتهرب من دفع الضرائب، إذ يقتصر الأمر على بعض الأدوية الحساسة مثل المؤثرات العقلية.
مرضى لا يثقون في الدواء الجنيس
و اعتبر محدثونا أن الإبقاء على البيع الحر للدواء سيطيل «الفوضى» الحاصلة، و دعوا إلى إشراك كافة الفاعلين من متعاملين، صيادلة و أطباء، من أجل الخروج بمنظومة تسيير يمكن لها التحكم في هذا السوق و إعادة تنظيمه حتى يتماشى و الأهداف المسطرة له، من خلال توفير الدواء للمريض و التقليل من فاتورة الاستيراد، و كذا استغلال الكفاءات الموجودة من خلال تشجيع الاستثمار في هذا المجال.
ولا يزال المرضى يفضلون الأدوية الأصلية  ويعتبرونها أكثر نجاعة من تلك المصنعة محليا، حيث أوضح سليم وهو كهل في العقد الخامس من العمر و يعاني من مرض مزمن بالقلب، أنه يفضل أخذ أدوية فرنسية على الأدوية الجنيسة، لاقتناعه المسبق بأنها أكثر فعالية، كما أن طبيبه يوصيه دوما بالبحث عن الدواء المكتوب في الوصفة و عدم قبول نوعيات أخرى، رغم فارق السعر الكبير بينهما، كما يقول محمد و هو رب أسرة وجدناه بإحدى الصيدليات بحي بوذراع صالح، أن ابنه الرضيع لا يتعافى بسرعة عندما يتناول هذا النوع من الدواء، بينما يحدث العكس في حالة حصوله على أدوية مستوردة من الخارج، مثل المضادات الحيوية، و الموجهة لخفض الحمى.
نائب رئيس مجلس أخلاقيات مهنة الصيدلة بقسنطينة يحذّر
طريقة توزيع الأدوية لا تخدم الصيدلي و متعاملون حوّلوا المهنة إلى تجارة
اعتبر أحمد بعيرة نائب رئيس مجلس أخلاقيات مهنة الصيادلة لناحية قسنطينة، أن الطرق المُتعمدة حاليا في توزيع الأدوية لا تخدم الصيدلي و جعلت منه «تاجرا» بالدرجة الأولى، مطالبا بضرورة احترام التشريعات المنظمة للمهنة، كما شدد على ضرورة محاربة شبكات تهريب الأدوية بـ «الكابا» .
و أوضح الصيدلي و عضو مجلس أخلاقيات المهنة بقسنطينة، أن بيع المواد الصيدلانية بالجملة و نشاط مخابر صنع الدواء الجنيس بالجزائر تعتبر من الاستثمارات الثقيلة، التي تسببت في تحويل المهنة إلى تجارة، نتيجة سعي أصحاب هذه المؤسسات إلى تحقيق ربح، دون إعارة أي اهتمام للشق المهني النبيل، بدليل أن المدراء التقنيين لهذه المؤسسات و هم الصيادلة يعانون كثيرا، و لا يؤخذ برأيهم في الكثير من الأمور، كما أن وجودهم، يضيف السيد بعيرة، يعد شكليا في أغلب المؤسسات، و لا يتعدى استيفاء الشروط القانونية، و هو ما يعد، حسبه، خرقا واضحا للقانون، حيث يسعى المجلس إلى تحسين وضعيتهم المهنية، و إثبات حضورهم المهني في المؤسسات التي تستعين بشهاداتهم حتى تتواجد في السوق.
و يؤكد محدثنا أن التعاملات التجارية طغت على المهنة، ما جعل عددا من المتعاملين يضاربون في بعض الأدوية المهمة و المطلوبة، حتى تصبح مفقودة في السوق لتباع كميات قليلة منها عقب ذلك مقابل إجبار المشتري على اقتناء ماركات مشكوك في فعاليتها، أو مواد تجميل و غيرها، و هو ما يعد نوعا من “الابتزاز” الذي يتعرض له الصيدلي مقابل سعيه لتوفير أدوية للمرضى، ليجد نفسه في الأخير مضطرا لرميها بعد انتهاء تاريخ صلاحيتها، و هو الأمر الذي يتعرض له أغلبية المهنيين اليوم.
و لم يخف ذات المتحدث وجود بعض التجاوزات التي يقوم بها مهنيون و أطباء تحوّلوا إلى شبكات تقوم، حسبه، بتوريد الأدوية من دول أجنبية وأ وربا تحديدا عن طريق “الكابا» و بطريقة مخالفة للقانون، مقابل تسويقها في الجزائر بأثمان خيالية، على غرار دواء “سيتروم» الذي قال أن ثمنه في السوق هو 188 دج فقط، في حين تقوم هذه الشبكات ببيعه و من دون وصفة، مقابل ألفي دينار للعلبة الواحدة، و هو ما اعتبره أمرا غير مقبول، مطالبا الوصاية بالتحرك من أجل وقف هذه الممارسات التي تضر بشرفاء المهنة.
كما دعا السيد بعيرة الصيادلة البالغ عددهم حوالي 9 آلاف صيدلي خاص على المستوى الوطني، إلى ضرورة التحلي بالمهنية و عدم الانسياق خلف مثل هذه الممارسات التي لا علاقة لها بميثاق أخلاقيات المهنة، مطالبا بتفعيل المواد و النصوص القانونية لمحاربة كافة التجاوزات الحاصلة، مع إعادة النظر في سياسة توزيع الدواء في الجزائر، حتى يكون الصيدلي مرتاحا في كل التعاملات التي يقوم بها، مضيفا أن مجلس أخلاقيات المهنة يقوم بواجباته من خلال ضبط المهنة و التقليل من الانزلاقات.
  عبد الله بودبابة